القَبَسُ الأخيرُ
في وقتٍ معلومٍ من أوقاتِ اليومِ، وخلفَ هذا الجبلِ أذهبُ لرؤيةِ قُرصِ الشمسِ وهو يختفي وراءَهُ، وأرى الأصيلَ طَفِقَ يمنحُ البصرَ قِطَعَه الذهبيةَ, ومن ثمَّ تنحدرُ الشمسُ انحدارًا بطيئًا كأنها تلكَ الدمعةُ الرقراقةُ التي أراها في شَجَنِ العاشقين وشجْوِ المنكوبين، أو القطرةُ الأخيرةُ المُتراقِصَةُ في الكأسِ الشفافةِ كأنها صهباءُ السُّكارى والفاسقين، فما أشبهَ ذا القرصَ بذي النفسِ! نعم، ما أشبهَ ذا القرصَ بذي النفسِ؛ فكلاهما يجيءُ ويذهبُ إلَّا أنَّ القرصَ يُؤَمِّلُ عودةً، والنفسُ تُخلِّفُ حسرةً.
كلانا أيُّها القرصُ على نفسِ الشاكِلَةِ؛ إذ تكونُ في العليلِ هادئًا ومثلَك نكونُ في المهدِ، ولا تلبثُ أن تلعبَ بك الحرارةُ, وتخدعُك, ويغُرُّك ريعانُ الشبابِ، وتلتاعُ وتلتعجُ، كذلك تفعلُ بنا صروفُ الدهرِ, وويلاتُ الحِدْثانِ, وانقلاباتُ الزمانِ, ثم تشيخ وتعود لهدوئك قبل انقضاءِ يومِك مثلَنَا, وعندما يحينُ الأصيلُ تخرجُ لك العنادِلُ من أوكارِها، وتلك الرياضُ الغَنَّاءُ والرياحينُ الفيحاءُ والنَّسَائمُ الطَلْقاءُ تُشَيِّعُك في هدوءٍ رائعٍ، وكذلك نحن نشيخُ بعدَ أن تعبثَ بنا مخالبُ الحوادثِ، ويَفُتُّنا عَضُدُ النوائبِ, ويقضي علينا بطشُ الدهرِ بعد أنْ نكونَ استهدينا من شبابِنا بما يعينُنا على تأصيلِ حكمةِ شيخوخَتِنا، فنبعثُ من حكمةِ الأيامِ أصيلًا كأصيلِك, وكما غَرَّدَتْ لك العنادلُ عند فقدِكَ تنوحُ علينا الأَحِبَّةُ عندَ توديعِنا.
وذلك الليلُ الذي يُرْخي عليك سدولَهُ أليس أشبهَ بهذا القبرِ الذي يُطْبِقُ علينا ظلامَه؟؛ ليكونَ ذاك الجبلُ الأَشَمُّ لَحْدَك، وتكونُ تلك الحفرةُ الهاويةُ لَحْدَنَا, أيها القرصُ كلانا على حالٍ مُتَجَانِسَةٍ؛ فنحن نُكْوَى ونَكْوِي ولكنْ لا يدري حجمَ نيرانِ بواطِنِنَا سوانا؛ فأنت تتآكلُ بالأفرانِ الشمسيةِ، ونحن نتغابَنُ بالأحزانِ المرديَّةِ.
هنا يا صديقي على لوحةِ البسيطةِ هذه نلتقي؛ لكي أبُثَّكَ من بناتِ صدري تلحدُها معَك خلفَ الجبلِ؛ لعل الهمَّ يُقْضى, ويبتلُّ غليلي، وتشبعُ مخمصتي، وتخمدُ غُضاضَةٌ أشْعَلَتْها جحائِمُ الزمانِ وصروفُه، ثم تعودُ لي في لاحقِ الآصالِ؛ لأبعثَ مَعَ قَبَسِكَ الأخيرِ بعضًا مما أكابدُ، حتى نلتقي في أجلٍ مُسَمَّى، ويحينُ غروبي فتقولُ لي: “وداعًا” ولا تقولُ عندَها: “إلى اللقاءِ”؛ لأنك تؤملُ عودةً, وأنا أخلفُ لك ذِكْرَى، فما أحْوَجَني إليك! أحتاجُك حاجةَ العاشقِ لمعشوقِه بعد هجرٍ، وحاجةَ الكَادِّ المسافرِ لإرخاءِ عمامتِه بعد لأيٍ؛ لكي أبُثَّك من دفيني من حنايا الضلوعِ التي تضويني, أيها القبسُ الأخيرُ قبلَ أن تنقلبَ عليك ظُلْمَةُ السماءِ اعلمْ أنني خبرتُ منك خبرًا عظيمًا، فهل عرفتَ عني بمقدارِ ما عرفتُ عَنْكَ؟.
_ الشاعر الطبيب